16 يونيو 2009

التقاطات جمالية، احتفاء بآخر الكلام الحميم

إضاءة : خميس قلم أول العُتمة : ( لا ظلّ للأسماء يحرسها) مجموعة شعريةٌ رشيقةٌ، متألفةٌ من ثلاثة عشر نصّاً، صدرت عن مؤسسة الانتشار العربي 2009 ضمن إصدارات الجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء، وكاتب المجموعة / علي الرواحي / كما تشِي به النصوص: شاعرٌ ممتلئ بمعاني الغربة والحنين : ص 20 ( هلاّ / أضأت دمي / يا غريبُ / وأرجعت / للناي / أشواقه / هل تعدّ يداك / حنيني / وترجعني / للطفولة / بين ذراعيك ). حالمٌ بالرجوع إلى المكان الأول والزمان البريء. شاعرٌ مزدحمٌ بالأسماء، أسمائه (له أن يتسمى بما شاء) فهو : الغريبُ ، المسافر ، ابن النخيل ، ابن حنين الأرض، صوفيُّ الغوايةُ ( أزرقُ يرتجل الحزن والليل والفتيات). وللفتيات أسماؤهن : زرقاء ، شمس ، ليلى ، سهى ، هند ومزدحم كذلك بأسماء الزهور : الياسمين ، الورد ، الزنبق ، البنفسج وأسماء الأشجار : الغاف ، النخيل ، الليمون ، الصفصاف وأسماء الطيور : اليمام، الحمام ، البلابل ، القطا ، النوارس هذه الأسماء وغيرها التي ستشكّل عالمه الشعري، يأخذها من الحلم ويبرع في (زرع إيقاعها في القصيدة أو في الوريد).. كل هذه الأسماء تتوسل ظلاً يحرسها حين تنام (أو تتظاهر بالنوم في ليالي البلاد البعيدة)، وحده الشاعر ظِلّ اللغة، يُبقي عينيه مفتوحتين على جمال الأسماء يحميها من هُواة الخراب والمحو، سوطه لسانه يلسع به كابوس القُبح الذي يحاول أن يتحرش بوداعَةِ الأسماء. وسنعود للحديث عن الأسماء في آخر الكلام.. ô لا ظلّ للأسماء يحرسها ( لا ظل للأسماء يحرسها) عنوان يشتمل على ثلاث دوائر: - الدائرة الأولى : عنوان المجموعة الشعرية، مظلة يندرج تحتها ثلاثة عشر نصاً شعرياً. - الدائرة الثانية : عنوان للنص الرابع في المجموعة الشعرية وهي دائرة محتواه في الدائرة الأولى. - الدائرة الثالثة : ( لا ظل للأسماء يحرسها ) عبارة شعرية متضمنة في النص الرابع، ويمكن اعتبارها مركز المجموعة، الحجر الأسود الذي تدور حوله حكاية: الغريب العاشق وما يحمله في دمائه من حنين للمكان والأسماء الأولى وتوق لمغامرات تثمل الأرصفة تحت خطواتها، حينما (يكون الوقت نبيذاً ويماما). بهذا سننظر إلى المجموعة الشعرية بوصفها نصاً شعرياً متكاملاً يدور في فلك (حكاية الغريب)، هذا العمل الشعري شكّله الشاعر من أفق متجانسٍ في لغته وصوره، ومتناسب في إيقاعاته ودلالاته، وقبل أن نطرق باب الحكاية (حكاية الغريب وحنينه ومغامراته) أودّ أن أسقط الضوء – بشكل سريع – على بعض الأعمدة الفنية التي يقوم عليها هذا (العمل الشعري) B اللغــة : معجم الشاعر في هذا العمل الشعري يسهل حصره ومفرداته تتّسم بالبساطة والوضوح لكن تركيب المفردات وانتظامها معاً يفرز تنويعات أسلوبية ومجازية ودلالية شتّى، يظهر التنويع في الأسلوب باستخدامه للجمل الخبرية والإنشائية وينوّع داخل حيّز هاتين الجملتين، فعلى صعيد الجملة الخبرية يراوح بين الجملة الاسمية والفعلية، وقد لا يلتزم بالقالب البسيط للجملة بمعنى قد يقدم الخبر / الجار والمجرور / في حالة الجملة الإسمية للجملة أو يقدم الحال على فعله / في الجملة الفعلية.. وعلى صعيد الجملة الإنشائية، يغلب عليه التعبير باستخدام الإنشاء الطلبي خصوصاً (النداء ، والاستفهام) مركّزاً على أداة النداء ( يا) دون غيرها من الأدوات : ص 65 ص 65 : لكنها الصحراءُ / يا أبتِ / تحنّ إلى صباها / في دمي ص 56 : يا شمس / صوفيُّ الغواية / مشرع / شباكه [ ياغريب تتكرر كثيراً] بينما يركّز في أسلوب الاستفهام على (هل) : ص 12 : هل تشعر / مثلي / بجبال / ظفار؟ ص 40 : هل يعرف / الوعل أبعد / من عشبةٍ / تتأولُ / أحلامُه بوحها؟ ص 66 : هل خبأتك غزالة عن قلبها / هل كاشفتك بما تحبُ / وهل حكايتها عن البدو الغزاة وعن غواية جدها / علقت بأجنحة القطاة. هذه التكرارات الأسلوبية تتوزع في النصوص لتؤكد على تجانس النفس الشعري للمجموعة والإيقاع النفسي للشاعر. B التنويع الدلالي : يرسم (علي) دلالاته الشعرية بواسطة تعبيرات شعرية بندولية تتأرجح باتزان بين التعبير اللامألوف والتعبير المألوف حتى لا يضيع القارئ في تخوم النّص الغامضة، لكن رغم ذلك يبقى النّص في عمقه عصّياً على متلقيه ما لم يتزود بكميات كبيرة من أكسجين الحرّية ليغطس إلى أعماق النص، على القارئ أن يتحرر من إسار المنطقية الفجّة في التعامل مع المفردات بل عليه أن يُسلم لها روحه لتقوده إلى ظلال شجرة المعنى. وكنموذج للتعبير اللامألوف : ص 25 : يسقط / من شرفة / الأغنيات / حبيبٌ / كنصف صلاة / وشت أدمع الطفل / عند السجود / بخضرتها.. فإضافة شرفة إلى الأغنيات ، وتشبيه الحبيب بنصف صلاة ، و وشاية أدمع الطفل عند السجود بخضرة الصلاة، كل هذه التعبيرات اللامألوفة، تفتح دلالة الجملة الشعرية إلى ما أُسميه بالحالة الدلالية، التي يستطيع القارئ أن يتأوّل بوحها وفق ظروف تلقيه النفسية، هذا النمط من التعبير اللامألوف لا يجعلك تسند ظهرك إلى جذع شجرة المعنى، بل يُلقي إليك بظلالها فتحس أثر المعنى عليك دون أن تحيط به تماماً. ويساهم في تقريب (الحالة الدلالية) للجملة الشعرية ما يسبقها أو يليها من تعبيرات مألوفة. ص 26 : اُخبئ / صورتك / الجانبية / تحت الوسادة / عطرَ الرسائلِ / أحفظُ فيروز / عن ظهر / قلبٍ ، وأعشقُ / محمود درويش / أحلم / بالبحر / مثلك. يأتي هذا المقطع الشعري المباشر ليرسم خطوطاً دلاليةً للمقطع السابق عن الحبيب الذي يسقط من شرفة الأغنيات، ويسوّغ هذه المباشرة كون الجمل الشعرية معنا على لسان عاشقة تستعرض أمام شاعرها فضائلَها : حفظ أغاني فيروز ، وعشق درويش ، وحلمها بالبحر B التصوير التشكيلي : مما يلفت النظر أثناء قراءة ( لا ظلّ للأسماء يحرسها ) المشاهد التشكيليّة المصوّرة، النابضة بالحياة والحركة، تتحرك لكن في إطار المشهد، صور تعبيرية ناطقةٌ، تساهم الأفعال المضارعة في بعث الحياة داخل إطارها والإيهام بالحركة: ص 26 : أحلم / أن يداً / سوف تأتي من / الغيب، يزهر / قلب الرصاص / بلمستها / برتقالا اعتماداً على المفردات المحورية، يداً ، قلب ، الرصاص ، تزهر يمكن للفنان التشكيلي أن يستمد لوحته من هذا المقطع.. بمعنى يمكن تحويل المقطع السابق إلى لوحة تعبيريّة. ص 51 – 52 : واليمامات / تحرث في غيمة القلب / لم يبق / غيرك، والدربُ / للنبع / محفوفةٌ / بالغموض وموغلةّ في التوجس / فاقتربي / أنت / صفصافةّ تمنح / النبع / زرقته .. كأنك تقف أمام لوحة من طراز الركوكو، تغِلب عليها الأوان الصدفية وتدرجات الأزرق.. B التناغم الإيقاعي : الموسيقي المنبعثة من أوتار النصوص تعمّق الشعور بانتمائها إلى سياق نفسي ودلالي منسجم، معبّرة عن حالة الوجد والحنين والاغتراب، يتأسس إيقاع المجموعة على تفعيلة المتقارب (فعولُن) وتدعمها تفعيلة المتدارك (فاعلن) وهما بحران يخرجان من دائرةٍ إيقاعيةٍ واحدة، يتخللُ هذا الايقاع تنويعات من تفعيلات ذات إيقاع متصاعد (فاعلاتن، مفاعلتن، متفاعلن) تتحاور مع الإيقاع العام منتجة مقطوعة موسيقية منفردة يساهم في صنع موتيفاتها تنوع القافية واستثمارها ويبلغ إيقاع العمل الشعري أقصاه في هذا المقطع ص 74 : أرتب في دمي / الإيقاع / هند / مدينة ومدى / وهند ربابةٌ أبدا غزال / كلما همست / إليه سحابة / شردا .. ô غيوم ماطرةٌ بالحنين قبل أن نلج إلى دهاليز الحكاية، تستوقفني ملاحظة شكلية تتصل بعناوين النصوص من ناحية وبالأسطر الشعرية للنصوص من ناحية أخرى، فالملاحظ أن عناوين النصوص طويلة نسبياً، ومركّبة غالباً.. - زرقاء ، حديث الشبابيك للفجر (تبتكرين لكل معلقة شاعراً أو مدينة) - مساء اليمامات / غربة أو دم الياسمين - جديلة شمس وآخر أيقونة للغريب - كما لو أنك تعبرين الآن أغنية من البلور والشرفات بينما الأسطر الشعرية للنصوص مُنكمشة، تكون في الغالب مفردة أو اثنتين ونادراً ما تأتي على ثلاث أو أربع مفردات هذا الشكل: القصر في الجملة الشعرية في مقابل طول العنوان يرسم لوحةً توحي بالتكثيف والتقطير. العنوان يكثف النص فيما يشبه غيمة، في حين تمثل الأسطر الشعرية قطرات المطر التي تسقط عمودياً من غيمة العنوان، لا يبقى أمام القارئ إلاّ أن يمدّ كفيه لالتقاط قطرات المفردات المتساقطة حتى يفيض المعنى بين يديه.. بهذا الوصف تصبح النصوص الشعرية قطيعاً من الغيوم الماطرة بالغربة والحنين في سماء المجموعة الشعرية.. ô جسد الحكاية جوهر هذا العمل الشعري يتصل بحكاية (الغريب الممزق بين جحيم الحنين وفردوس المغامرة) الحنين للمكان والأسماء، والمغامرة بما تحمله من غواية الإسفلت والأرصفة وتشظّى موج البحر. ويتجلّى جسدُ الحكاية في نصي (لا ظل للأسماء يحرسها) ، (جديلة شمس وآخر أيقونة للغريب) بينما روح الحكاية مبثوثة في باقي النصوص.. = نداء الأقاصي / الحنين إلى الأصل : المكان الأول ، الزمان الأول ، البراءة الأولى، تنفلت في لاوعي الشاعر لتبوحَ بحنينها وقلقها من مصير هذا التحوّل عبر غربة الروح والمكان. ص 31 : [لا ظل للأسماء يحرسها] عُدْ / ياغريب / إلى أقاصيك / القصية / فاليمام هنا / غريبُ واحتدام / الليل / بالنايات والغافِ / المسافر في / حكايتنا / غريبُ والحنين / لنخلةٍ أسميتها / ليلى / غريبُ عد / كالمدى / ينسلّ / منك ويختفي / فيك الخيبُ ص 39 : [ جديلة شمس وآخر أيقونة للغريب] تركت / على حافة / الليل / قلبك / ثم رحلتَ / إلى أين / يا ابن النخيل التي قالت / الأرضُ / للريح: / هذي / بناتي احرسيها، / ويا ابن حنين / إلى أين ص 56 : [كما لو أنك تعبرين الآن أغنية من البلور والشرفات] يا شمسُ / صوفي الغواية / مشرع شباكه / وأنا / مناديلٌ ترفّ / على صهيل/ الأرض / فينا كلما حنت / نخيلُ.. ص 62 : [أغنية الليل/ مرثية الليل] مرهقةُ / ظبية القلب / والريح مرهقة / والخيام والغريب / هنا مرّ / منذ / قطيعين للأغنيات / وعامٌ.. ص17: [ مساء اليمامات / غربة أو دم الياسمين] مساء / اليمامات / يجهرن بالعشق / للغرباء / ويحفرن / في القلب / أعشاشهن مساء اليمامات / والغاف / هذا الغريب / سيشرق / بالصمت والليل.. ص 73 : [كلام ساحر في الرمل] أعيديني / إلى رئتي / كي أتنفس / الأشجار يا صحراء / رديني.. كلّ هذا الحنين الجارف إلى البدايات بنخيلها وغافها ويمامها وخيامها وغزلانها وناياتها ورمالها وإبلها وخيامها ومضاربها.. ترسم ملامح المكان الأول المعبّر عن روح الصحراء، وللصحراء عاداتها في الحنين.. = حنين الأسماء : المكان المغتَرب منه حافلٌ بالأسماء: أسماء الطيور، الزهور، الأشجار، والنساء وسأتوقف عند أسماء النساء التالية : شمس، هند، ليلى وهي أسماء تنتمي إلى الخيام.. (شَمْس) : اسم متوهج في المجموعة، يتكرر بشكل ساطع في ثلاثة نصوص، يعكس طبيعة الصحراء برمضائها وصهدها، يبدو صوت (شمس) دافئاً وهي تعاتب برقةٍ منقطعة النظير عاشقها المغترب: ص41 : إلى أين؟ / وجهك قافلةٌ / للحنين، وقلبك / طائر / إلى أين ليمونة البيت / لم تُفشِ سرك / من سيقول / صباحكِ أزرق؟ الزرقة تنكشف بجلاء مع شروق الشمس، بالشمس تنمو الزهور ويزهر الياسمين وتتمايز الظلال التي تخلفها الشمس وراء الموجودات ، وللشمس في سمائها حركةٌ وميل، للشمس رقصةٌ، وقد نذرت (شمس) أن يظلَّ ظلَّ رقصتها وفيّاً للنخيل وللبراري، عاهدت شمس الحديقة أن يظل الياسمينُ كظلِ رقصتها وفيّاً للنخيل وللبراري. (هند) : أخت القطا والغاف، بنت الصحراء، هند ربابة مجروحة بالحنين، غزالٌ شاردٌ من همس سحابة، هند عاشقةٌ، وشاعرها / سيُسلم قلبه للريح/ نعم سيغادر يغترب إلى حيث النوارس وتشظى الموج، وفي أعماقه صوت الحنين يشّده إلى البدايات. ص 73 : أعيديني / إلى رئتي / كي أتنفس / الأشجار / يا صحراء / رديني / أرتب في دمي / الإيقاع (ليلى) : أشهر المعشوقات في التاريخ العربي، ليلى نخلة يؤبرها الحنين (والحنين لنخلةٍ أسميتها ليلى غريبُ) هي الصبابة والربابة والسحابةُ، ولها حكايةٌ علقت بأجنحة القطاة ص 67 : فكن مطراً / على أقدام ليلى / أينما ولت / وقَفْتَ / على مضاربها بعشب القلب. شمس ، وهند ، وليلى ، اسماءٌ قابلةٌ للتأويل أكثر.. تتجلّى بصور وصفات شتى في سطح العمل الشعري لكنها في عمقه مرتبطة بوشائج تجعلها تشترك في انتمائها المكاني وحنينها العاطفي حتى يمكن تذويبُها جميعاً في ذاتٍ واحدة، مما يؤكد تماسك العمل الشعري. = الاغتراب وتشظّي الذات : رأينا أن المجموعة طافحة بالغربة ومرادفاتتها الغريب، المسافر، رحلت ، يسافر،...الخ. وربما تكرار عبارات من قبيل (عُدْ يا غريب)، (عد يا غريب) و(إلى أين) (إلى أين) ويمكن تقدير الفعل المسكوت / المضمر هنا إلى أين تمضي / ترحل أقول إن هذه التكرارات تكرّس الشعور بالاغتراب ويصاحب الغريب في مسيرة تحوّله المكاني، صوتّ داخلي يخاطبه باعتباره آخر، صورة له أو ظل، (أتعرف زرقاء بأني / أنك..) (أتعرف زرقاء بأنك/ أني) (قل لي) وزرقاء هذه بالمناسبة تنتمي إلى غواية المدينة يبوح بانتمائها خطوط حقيبتها، واللحاف الذي تتقي به الشمس (شمس هنا تذكرنا بالمكان الأول)، زرقاء هذه المدينة المختزلة في فتاة تبعث في الشاعر وظلّهِ أحاسيس تتوزع في جغرافيا الوطن [هل تشعر مثلي برمال وهيبة] ، [هل تشعر مثلي بجبال ظفار]. ذلك الظل/ الصوت الداخلي لأنا يتحول فيما بعد إلى ناقوس يذكره بانتمائه الأول ص34 : والبلابل / جرّحت أشواقها / لك يا / غريبُ لا ظلّ / للأسماء يحرسها / فعُدْ.. ثم يمارس عليه ذلك الصوت لعبة (الضمير) ليرده عن طيش غربته وخطورة مغامرته ص36: عد يا غريب فما لمثلك كل هذا البحر والاسفلت يغوي أرجل الغرباء.. يتشظّى الغريب وفق ذلك إلى (أناتين) - الأنا الباحثة عن مغامرات المدينة وغوايات الاسفلت وهي ما يسميها فرايد (الهو) - الأنا الباعثة للحنين والمخدرة من عاقبة النزق / وهي صوت الضمير يسميها (فرايد) (الأنا الأعلى).. الشاعر إذن تسيطر عليه تجربة الاغتراب ببوحها ويسيطر هو بما يمتلكه من أدوات فنية فذّة على خيوط الحكاية.. = غواية الاسفلت / طريق اللاعودة: طريق الحرير ببحره ، نوارسه ، شطآنه ، أرصفته ، إسفلته ، نبيذه الخرافي، ملاءاته، شراشفه ، مراياه وبنات ليله، طريق اللاعودة حيث المكان الآخر / المكان المغتَرب إليه مدينة البحر والمغامرة.. هناك حين يكون الوقت نبيذاً يضلل الغريب ويطرحه على أرصفة الجرح الثملة تحت خطاه، يحصي هزائمه، يغويه الاسفلت إلى البحر تغادره الطرقات (هل أشعر مثلك بالطرقات تغادرنا) يجد نفسه منكسراً أمام البحر، يرى في الموج المتشظي انعكاس ذاته: ص45: وجوهٌ في نشيج الكأس / تلفحني / ووجهك / حانتي الأخرى / وتشربني / بنات الليل / هل / عبثٌ تشظّي / كل هذا / الموج؟ / هل عبث / ؟ فيجاوبه صوته الداخلي مطالباً إياه بالرجوع إلى المنازل الأولى : ص37: عُدْ / يا غريب / فما لمثلك / كل هذا / البحر/ والاسفلت / يغوي أرجل / الغرباء / ماذا بعد / لم تفقد / على شطآن هذا / البحر؟! ô آخر الكلام تحدثتُ في أول العتمة عن الأسماء التي تتوسلّ ظلاً ليحرسها ، وقلت أن الشاعرَ ظلَّ اللغة يبقي عينيه مفتوحتين على جمال الأسماء يحرسها من هواة الخراب والمحو، ويشيّعنا في غلاف المجموعة مقطعان شعريان لا ينتميان لأي نص داخلها، وكأنهما رجع للعنوان (لا ظلّ للأسماء يحرسها) تركت الكلام / الحميمَ / على جمرةٍ من كلامٍ / وصمت / ونمت الشاعر / ظل اللغة يترك الكلام الحميم / بما يحمله هذا الكلام من ذاكرة وأسماء ، يتركه على جمرة من كلامٍ وصمت.. جمرة تحرق الكلام الحميم، تحرق الشعر بكلامٍ عابر وتحرق الشعر بجمرة الصمت المطبق.. هذا التخلي عن الكلام الحميم هو في حقيقته فعل تدميري يضاعف انهزاميته عبارة (ونِمت) والنوم معادل الصمت والموت بل الانتحار لأن الانتحار فعل اختياري كالنوم.. النوم كذلك إغماضٌ للعينين – لماذا يغمض الشاعر عينيه؟ هل يسعى الشاعر / ظلّ اللغة / أن يبصر في عتمة عينيه المغمضتين الحقيقة التي يبصرها أبو العلاء.. لكن أبو العلاء يبصر – وحده – الحقيقة بعينين مغمضتين كما في الإهداء ص7، وفي الإهداء كذلك يثير الشاعر إلى أنّ ما يُهديه لأبي العلاء هو : أول العتمة آخر الكلام .. فهل هذه المجموعة الشعرية هي آخر الكلام؟ الموحش : أنّ المقطع الثاني في الغلاف يؤكد على تلك الرغبة في الانتحار الشعري فمرّي عليّ إذن ربّما يتسنى لقلبي التوقف قبل الثلاثين لا ليقول الحقيقة، لكن ليكبرَ في نظر الياسمينْ.. يختار الشاعر / ظلّ اللغة أن يغمض عينيه ويغفو تاركاً (الأسماء بلا ظلٍّ ليحرسها) ولسان حاله يقول : " طويلاً ثرثرت، وآن لي أن أصمت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق