26 أكتوبر 2010

جثمان المدينة
عبدالله حبيب
وأنا ذاهبٌ إلى المكتبة في الصباح
كان القطّ المدهوسُ
مستقراً على جنبه الأيسر
في وسط الإسفلت
تماماً
وأنا عائدٌ من الحانة في آخر الليل
كان القطّ قد تعب قليلاً
فجمع أعضاءه إلى بعضها بعضاً
التماساً للدفء في الليلة الباردة
واضجع هذه المرة
ملتحفاً أثرهُ
ودمَهُ
في وسط الإسفلت

تقريباً
*******************************************************************
المُواءُ الأخيرُ
محمد السناني
إلى أرواح القطط التي قَضَتْ
وستقضي، دهساً، في شوارع العالم
تموتُ غريباً
وتحيا غريباً
كأنكَ ما كنتَ إلا الهباء
وأرواحُكَ السبعُ تحتَ السماء
ترفرفُ فوقَ جثامينكَ المهملاتِ
صباحَ مساء
فقلْ لي: هل الموتُ إلا حياةٌ
تُوسِّعُ هذا الفضاءَ المُطوَّقَ بالموت؟
هل الموتُ إلا الغناء؟
كنتُ أراكَ كمن يَعبرُ المستحيلَ
ولكنَّهُ لا يصلْ .....
كأنَّ الرصيفَ رصيفُ الأزلْ،
تَخونُكَ فيكَ الغريزةُ والظِّلُّ
واللَّونُ والشمسُ والزمنُ/الضوءُ
والعابرون إلى (حيثُ.... لا حيثُ)
إلا الأَجَلْ
لم يكنْ موتُهُ حادثاً يُتناقلُ للتسلية
كان مرورُ الإطارِ على الجَسَدِ الهَشِّ
أدعى إلى السخرية!
لا لستُ أرثي الطبيعةَ
لا لستُ أهجو التَّقدمَ نحو الخراب
ولكنني أَتَدَاعى، كما تتداعى البيوت،
لرؤيةِ قِطٍّ يمـوت
لا مُواءَ سيملئُ جُدرانَ عُزلتِنا
بعدَ هذا الخـواء

******************************************************************************************
( نص على نص ) رثاء قطّ خميس قلم
تصدير: يجب الإشارة إلى نص عبدالله حبيب " جثمان المدينة " في كتابه " فراق بعده حتوف
لو أنك رَكنتَ إلى الأرائكِ الوثيرة
لو أنك مكّنتَ الأصابعَ الرخوةَ من فروك الحُرّ
لما شربتِ العجلاتُ من دمك
يا ابن الأزقةِ الضيقة
أيّ جوعٍ رماكَ إلى الإسفلتِ الغادر ؟
ألم تكن مخالبك وفيةً لبطنكَ
أم هرمتَ بما يكفي ليخونكً فسفورُ عينيك ؟
ولكي يكونَ لغيابكَ معنى نبيلٌ
سأزعمُ إنها قصة حبٍّ
فتّتتْ ما تبقى من أرواحكَ، فزهدتَّ في جسدك .
لكن قل لي
( وأعلمُ أنني لن أسمعك )
أتراجعَ الموتُ قليلاُ حين نفختَ ذيلكَ أمامه
أم فاجأته بحضورك البارد ؟
ها أنت الآن
لا لحم، ولا عظام، ولا عصب
لم يبقَ من أثركَ سوى بقعةِ دمٍ
شاهدةٍ على ذاكرة الحبّ والحرية .
الأمومة
إلى ناني: كاتلينا الأمومة ليست رحماً
ليست ثدياً
ليست هدية عيد الميلاد
و وضع اللمسة الأخيرة على هندام الطفل
قبل التقاط صورة له
***
أن نصبر على الحنين الجارف إلى صغارنا
أن نراهم في أطفال الغرباء
أن نكافح لأجلهم حتى يكرهوننا
أمومة محضة
وأن نبكي تحت لحاف الظلام
بكاءً يتصيّد الوساوس
بكاءً لا يتبقى منه في الصباح
إلاّ ندى على الفراش
وتنهدات تجففها الشمس
***
لن يكبر صغارنا إلاّ إذا
تركناهم للمسافات
وحرمناهم من ظلنا
حتى حين

* خميس قلم: الحياة بدون شعر.. كآبة مزمنة.

* الشاعر الحقيقي يتتبع صوته الداخلي.. لا يتعالى على جمهوره ولا يسقط وحل السوقية

* لا تسكنني حمى الغجر بالدخول أو الخروج من الجغرافيا.

* لن يكتمل مشهدنا الثقافي إلا بالنقد
* ليس من مهام الشاعر أن يكتب قدرا كبيرا من الشعر.

* نتاج الشعر أقل قياسا بنتاج القصة.

* أصبت بالغيرة بعد استماعي لقصص الملتقى.. لذا أحلم الآن بكتابة السرد.

حاورته: هدى الجهوري

الشاعر خميس بن قلم الهنائي الذي قرأ الكتب بصبر كبير على مسامع والده ورجل أعمى في طفولته الأولى، وكتب أولى قصائده ليتخلص من الكآبة، ثم قدّم مجموعتين شعريتين "مازال تسكنه الخيام" و"حموضة مالحة"، ويعدنا الآن بمجموعة ثالثة "في مهب الحطام"... خميس قلم الذي يحلم بمجاورة السرد، وبكتابة رواية، ويشتغل جديا على أن يقرأ الكثير من التنظيرات حول قصيدة النثر ليخرج بفهم جديد عنها، خميس قلم الذي يرى حاجتنا إلى حضور النقد في الصحف، ويرى أن هنالك شعراء جيدين حتى عقب وفاة محمود درويش.. فإذا امتلك الشعر أسباب بقائه سيبقى، وإذا فقد أسباب بقائه فسينقرض كما انقرضت أشكال كثيرة منه.. خميس قلم الذي اصطدنا حضوره لملتقى البريمي الأخير ... لنتحادث حول أشياء كثيرة تخصه، وتخص الشعر.

* هل انتهى زمن الشعر؟

لكل زمن شعره الخاص به، وإذا كنا سنقيس الشعر الحديث بالشعر القديم سنقول أن زمن الشعر انتهى تلقائيا. ولكن لكل زمن تجلٍ وهيئة، ومفهوم جديد، ولو قارنا بين مفهوم الشعر القديم، والشعر الحديث سنقول بأن سلالة الشعر القديم قد انقرضت بينما الشعر باق، ولكنه كائن متحول إلى هيئة أخرى...

* هل هذا التحول ضروري، ومواكب للتغيرات الحياتية التي نعيشها ؟

بطبيعة الحال..تشكل هذا التحول والتمحور ليواكب تغيرات العصر المختلفة فكانت علاقة الشاعر القديم مع المكان فيها نوع من التجريد بسبب قلة التفاصيل التي تحيط به. التفاصيل البصرية، وحتى السمعية فالأصوات التي كان يسمعها الشاعر القديم قليلة جدا.. بينما الآن أصبح المكان الضيق الذي نعيش فيه مليء بالتفاصيل سواء أكانت صوتية أو بصرية وهذا هو ما يدفع إلى نتاج مختلف ومتفرد تماما في الشكل الشعري.. أدونيس لديه كتاب اسمه زمن الشعر يتحدث في بعض مقالاته عن الغموض، وبعض الآليات والأدوات التي استجلبها الشاعر الحديث وساهم في تغيير وجة الشعر، ولو أخذنا مثالا على هذه التغيرات التي أصابت الشعر.. سنجد أن قصيدة النثر خير مثال وهي تحاول أن توجد متاخمة بين العناصر المتميزة والجميلة في النثر والعناصر المتميزة والجميلة في الشعر أي جوهر الشعر وجوهر النثر ليلتقيا في قصيدة واحدة.. المسألة تبدو أشبه بالرياضيات.. فهذه عناصر النثر في دائرة، وعناصر الشعر في دائرة والعناصر المتقاطعة بين الدائرتين هي قصيدة النثر: الكائن الشعري العصري.

* أنت تكتب قصيدة التفعيلة فما علاقتك بقصيدة النثر؟

في مجموعتي طفولة حامضة ثمة نصين ينتميان لقصيدة النثر ولدي الآن مجموعة جديدة: "في مهب الحطام" دفعت بها إلى جائزة دبي، ولا ادري إن كانت قد استوفت الشروط .. إلا أن بها أفقان أفق لقصيدة التفعيلة، وأفق لقصيدة النثر.

* هنالك خلاف طويل بين من يكتب قصيدة التفعيلة وبين من يكتب قصيدة النثر وأنت تجمع بينهما؟

في الحقيقة أنا الآن في منطقة خطيرة جدا في تجربتي الشعرية، فأخطر فترة في أي مرحلة.. هي فترة الهبوط أو الإقلاع، وأنا تماما أعيش هذه الفترة الحرجة جدا.. كفترة خروج الفراشة من الشرنقة، والتي يمكن أن تتأذى في لحظة الميلاد... كنت سابقا اكفر بكل ما سوى الإبداع، وكنت أؤمن بالإبداع بالمطلق، ولكنني الآن أكرس نفسي لتنظيرات الكتب المترجمة من مثل سوزان برنار وغيرها لأني أريد أن افهم هذا التحول الذي جعل معمار القصيدة يتحول كل هذا التحول الضخم. كنت متصالحا مع الأشكال.. كالتغير من القصيدة القديمة إلى التفعيلة أو من التفعيلة إلى النثر ولكن الآن اشعر كأني في مرحلة مخاض مختلف.. لا أحاول فيها أن أغير أفكاري، وشعوري ولكن إذا لم تقنعني البحوث القادمة والدراسات التي اشتغل على قراءتها.. فلن أعتبر النثر اقل من الشعر، ولكن سأعتبر أن ما اكتبه نثرا وليس شعرا وكما قال محمود درويش هنالك قصيدة شعر، وهنالك قصيدة نثر أيضا، إلا أن الشعر غير النثر.. حتى بعض كتاب قصيدة النثر أتضح فيما بعد أنهم غير متيقنين من قصيدة النثر وليدة الحداثة بسبب وجود تصادم بين قطعتي الثلج.. بين ما يكتبه أدونيس وبين ما كتبه الماغوط على سبيل المثال.. الباب واسع وأنا في إطار البحث التأريخي لما تم التنظير له في باب قصيدة النثر لذا ما زلت أعيش إلى الآن مرحلة من القلق والشك الحيرة إزاء ذلك.

* هل هذه القراءات متعلقة بدراسة أو بحث أم أنه اهتمامك الشخصي؟

لا علاقة له بالدراسة ، إنه محاولة لتكوين وعي الخاص، وقد أشركه في مقالات اكتبها لاحقا...

* هل ترى أن التعاطي مع الشعر من قبل المتلقي خفت عمّا كان عليه، وتراجع أمام منطقة السرد ؟

إذا قصدت السرد كسرد فالسرد موجود أيضا في الشعر، وفي تجليات أخرى.. أما إذا قصدت السرد النثري فكل إنسان يستطيع أن يسرد بغض النظر عن طبيعة ما يسرد.. لان السرد لا يعتمد كالشعر على التصورات الصورية.. فمنذ القديم كانت هنالك تصورات بأن للشاعر شيطان يوحي له، أو يتلقى الكتابة عبر الأثير كما في بعض النظريات الأوروبية. الشعر منطقة مخيفة لا يستطيع إلا من امتلك أدواتها أن يدخلها. وفي قرارة نفسي اعتقد أن هنالك سهولة في كتابة السرد، بالرغم من أنه ليس من السهل أن تكون ساردا جيدا. الكتاب الصغار لا يقرأون قصيدة النثر مثلا في بداياتهم لأنهم يعتقدون أن القصيدة القديمة هي القصيدة النموذج أو المثال فتقليد النموذج صعب جدا.. أما القصة فهي حديثة، والنموذج الصعب فيها من السهل تقليده أو على الأقل من السهل إقناع القاص بأنه يقلد هذا أو ذاك.. لذلك وعندما يدخل القاص في هذا السياق يسهل تهذيبه.. ربما يكتب القصة مئة قاص في السلطنة، ولكن الجادون يعدون بعدد أصابع اليد، وهذا لا يعني أن نلغي الآخرين.. أما الشعر فيقول لك الشاعر أنا أحب الشعر، ولكن لا أستطيع أن اكتبه لأن الشاعر يتوخى في نفسه النموذخ الأسطوري .. وأنا أرى أن الكتاب الصغار الذين يكتبون قصيدة النثر يسيئون إليها أكثر مما يضيفون لها..

* إذا الشعر يعيش فترة تراجعه في السلطنة، بينما يعيش السرد فترة ازدهاره الآن ؟

اعتقد أن ماساهم في خلق هذه الفجوة هو عدم القرار الشعري.. فقد نشأت أزمة في التلقي الشعري.. هنالك أزمة حقيقية مع المتلقي.. الشعر مراوغ ولكنه ليس بسيطا، لكن الكثير من الشعراء انسحروا بقصة الحداثة حتى أن بعض القاصين وقعوا في نفس الفخ.. أقصد أزمة الشعرية العالية وغير الموظفة مما أدى إلى خلق أزمة في التلقي فالشعر إن لم يكن خطابيا ومنبريا وواضحا ابتعد عنه الجمهور لذا نحن نحتاج إلى شاعر لديه جملته البسيطة التي تصل بسهولة للمتلقي، والعميقة أيضا في المعنى..

* أنت تقول أن الأزمة تكمن في عدم استجابة الجمهور للأشكال الكتابية الجديدة، ولكن ما رأيك في من يقول أن الشاعر متعالي ومنكفئ على ذاته؟ ألا يتحمل الشاعر أيضا جزءا من مسؤولية تراجع الشعر؟

أولا: أنا لم أحمل القارئ المسؤولية، ولكني سأتساءل: من أين يظهر هذا التعالي لدى الشاعر.. أليس من خلال النص نفسه.. النص الذي التبس فيه مفهوم الشعر؟ الشاعر الآن يتصارع بين معطيات التراث، وبين معطيات الحداثة لينتج نصا شائكا، ومربكا.. والمتلقي أيضا لم يمتلك آليات تلقي هذا النص من جهة أخرى. اعتقد أنه من الضروري أن يصل للمتلقي ذلك البعد النقدي من خلال الناقد الذي يجب أن يساهم في صنع علاقة بين الشاعر والمتلقي، فالشاعر لا يتحمل وحده هذه المسؤولية الكبيرة، فغياب التوصيف النقدي وغياب القراءات كلها عوامل مساهمة في تثاقل المتلقي إلى النماذج البسيطة، لذا من الطبيعي إذا أن نجد جمهورا ينعت شاعرا بأنه ليس بشاعر لأنه مخالف للنموذج الموجود في رأسهم . مازلنا إلى الآن نتلذذ بقصائد الشعر الجاهلي، ولا ننكر ذلك، وكذلك الأمر في السرد فنحن إلى الآن نتلذذ بقصص ألف ليلة وليلة .. إلا أن لكل أدب ظروفه وزمانه ومكانه.. فالشاعر الحقيقي لا ينقاد وراء الآخرين، بل يتتبع صوته الداخلي الذي يفرض عليه أن يكتب في منطقة لا تكون متعالية على الناس ولا تكون في وحل السوقية.

* ولكن ماذا عن الإغراق في الغموض في زمن يسير بسرعة.. اعتقد أن القصة القصيرة في السلطنة انتبهت للمأزق، والدليل هو الملتقى الأدبي الأخير، فكانت القصص وبشهادة الجميع قد تخلت عن الشعرية المفرطة وانتصرت للحكاية؟

أنا أتصور ضرورة أن يكون الكاتب صادقا فيما يكتب قبل كل شيء، بالفعل هنالك قصائد بصور لا معنى لها على الإطلاق.. صور مربكة، ومتقطعة وفقط.. أنا مع الغموض الذي يشير إلى معنى كبير وهذه النوعية من القصائد احترمها وأتواصل معها.. مع صيحة الحداثة اعتقد الشاعر أن الغموض هو العنصر المهم لكي يكون شاعرا حقيقيا حتى أن شعراء حقيقيين ومتمكنين في قصيدة النثر وقعوا وانتكسوا في الغموض.. فكتبوا نصوصا ودافعوا عنها بقولهم: "كل شاعر يعبر عن نفسه" بالرغم من أنهم كانوا ينطلقون من فشلهم.. برأي أن الشاعر الجيد هو الذي يحافظ عمق الدلالة، وبساطة التركيب، الصدق في الكتابة..

* قصيدة النثر التي فقدت الاشتراطات الصارمة لشكل القصيدة القديمة جعلت كثر يتجرأون على كتابة الشعر؟

حدث هذا جراء تبجيل الغموض الداكن الذي أغرى الكثيرين بالكتابة، وأدخلهم إلى سموات تجاوزت أحيانا السماء السابعة ... ولكن في النهاية بدأ الكتاب الواعون باكتشاف الحقيقة.
* سهولة الحصول على ديوان شعري كامل من الانترنت وقراءته..هل أثر على سوق الديوان الشعري أم ساهم في انتشاره؟

لا أدري عن قصة السوق .. لا أرى أن هنالك أصلا سوق للكتاب لكي يتأثر .. إن كنا سنقيس الأمر كذلك فأيضا الرواية أو القصة تأثرت مثلها مثل الشعر، فمنذ مدة بسيطة أنزلت رواية "آيات شيطانية" من الانترنت وبدأت بقراءتها. برأي الانترنت خدم الشعر وقدم أصواتا جديدة، وحتى الأصوات القديمة خدمها بشكل جيد... الآن أنا أستمع إلى قصائد أمل دنقل بصوته ..

* لماذا اخترت أمل دنقل من بين جميع الشعراء ليكون موضوع دراستك للمجاستير؟

نمط الحياة التي عاشها أمل دنقل، ومحاولة غمرها أو طمسها بحكم عدم موافقتها للسياسة في ذلك الوقت، ومحاولة وأد صوته... شاعر مثل دنقل استفاد منه الكثير من الشعراء الحديثين، وهنالك من قام على أكتافه، ولم يعطه حقه.. دنقل شاعر إنساني في المقام الأول، وتجربته متفردة ويعجبني كثيرا.. درست ثيمة الموت في شعر أمل دنقل فقسمت الشعر إلى محاور.. موت الذات، وموت الآخر، والموت قتلا، وكائن الموت، وتصويراته ..فحاولت أن أتقصى الموت وأن أحلله من خلال قصائده. * تكلمت فيما يتعلق بتراجع الشعر عن غياب الناقد ..كيف ترى النقد في السلطنة.. كونك شخص اشتغل على نقد الشعر كورقتك في ديوان علي الرواحي، ونقد القصة كورقتك في مجموعة الممثل لأزهار الحارثي؟ الناقد هو قارئ للنص سواء أكانت قراءته أفقية أو رأسية، ومن خلال تجربتي أقول كانت علاقتي مع قصيدة التفعيلة علاقة غامضة وشائكة لا أستطيع التواصل معها في السنين الأولى لقراءتها .. ثم كان الفضل الكبير كان للناقد إحسان عباس لتتغير نظرتي إليها..كنت أقرأ المومس العمياء للشاعر بدر شاكر السياب: الليل يطبق مرة أخرى، فتشربه المدينه والعابرون/ إلى القرارة... مثل أغنية حزينه/ وتفتحت كأزاهر الدفلي، مصابيح الطريق/ كعيون "ميدوزا"، تحجر كل قلب الضغينه. كان بها حشد كبير من الأساطير والصور والأساليب الغريبة. لم استطع التواصل معها لأنه كان يأخذ من القصيدة العمودية النموذج.. بمعنى أن القصيدة كانت تتبع نموذج مختلف عن النموذج الموجود في ذهني، لذا لم استطع أن أتواصل معها عندما قرأتها، ولكن وقوعي على توصيف نقدي لإحسان عباس ساهم في خلق فهم جديد، وفهم قصيدة التفعيلة، وحركتها وتوظيفها للأسطورة وبدأت أتصالح مع قصيدة التفعيلة، ومنذ ذلك الحين لم أعد أطلق أحكاما على ما لا أفهمه أو لا أتواصل معه، ولكن كان عليّ أن اجتهد. خصوصا إذا كان الكاتب قد قطع شوطا طويلا في الكتابة، ويتفق النقاد على أنه شاعر جيد.

* لم تجب بعد على سؤالي فيما يتعلق بالنقد في عمان؟

كنت أضرب المثال السابق لأقول أن النقد مهم جدا لخلق تفاعل بين المتلقي والنص... في عمان اعتقد أن هنالك الكثير من الأسماء تظهر في ساحة النقد، وهي تخلق حراك، وإن كان بطيء سواء من العمانيين أو غير العمانيين المتواجدين في السلطنة، وأنا استبشر بهم خيرا، ولكن أتمنى أن نطالعهم في الصحف ... فالنقد فن لا يكتمل مشهدنا الثقافي إلا به..

* هنالك فرق بين مجموعتيك: "مازال تسكنه الخيام"، و "طفولة حامضة" من حيث القوة...فالمجموعة الأولى أقوى، وكتبت بتركيز أكثر من المجموعة الثانية؟ هل تتفق مع هذا الرأي ولماذا ؟

نعم اتفق بأن الديوان الأول أفقه أوسع.. الحقيقة هنالك ثلاث دوائر، طفولة حامضة المجموعة الثانية وقعت بين أثر وظل الذين ضمنتهما في المجموعة الأولى لذا لا يمكن أن نعتبرها مجموعة لاحقة بالرغم من أن نشرها تم لاحقا، ولكنها كتبت بعد النصف الأول من المجموعة الأولى، ونشرتها إرضاء لبعض القراء الذين أحبوا تلك القصائد. طفولة حامضة قصائد تتكيء على الطفولة، والتي هي المهرب والمفر مقابل الأشياء التي يعايشها الواحد منا وتدفعه للتكهل ... لذا نحن إلى الطفولة ...

* العوامل التي كونت خميس قلم كشاعر .. أم أن ذلك حدث من قبيل الصدفة؟

كيمياء الشعر وصفة لا يعرفها الشاعر نفسه .. الشعر كالحب كالموت لا يمكن التكهن بهما.. أخبرني القاص سليمان المعمري أنه أعجب بشاعر كان يقول: "الشعر هو كائن بحري يعيش في البر ويفكر بالطيران".. حتى هذه الجملة التي لا تقول بواقعية الشاعر لكونه حالم.. والحلم أيضا كيمياء سحرية. الحقيقة وإن كنت ما سأقوله الآن يبدو تقليديا إلا أن الشرارة الأولى بدأت وأنا في الصف الرابع الابتدائي.. فقد كان والدي يصحب رجلا أعمى إلى منزلنا ويأمرني بقراءة كتب الشعر والنثر والكتب القديمة.. تبدأ المسألة وكأن بها نوع من التسلط، وأنا طفل أحب الحرية واللعب.. في ذلك العمر كنت أقرأ " الجنة في وصف الجنة" "المستظرف في كل فن مستظرف" وكانا يستمعان لقراءاتي ويصوبان لي أخطائي، ثم يتغير التذمر وتصبح المسألة لذيذة وممتعة مع القص، بعدها تشكل لدي إيقاعي القرائي الخاص، ومن حسن حظي أني من أسرة تحب الكتب والقراءة... والدي كان معلم قرآن، و كانت الكتاتيب تقدم على قسوتها ومرارتها تأسيس جيد ربما أفضل من الآن. اعتقد أنه من الضروري تأسيس الطفل منذ سن الرابعة.. ولا بد من وجود مؤسسات تحاول أن تربط الطفل بالأوراق والأقلام والكتب، وهذا ما لا أراه الآن للأسف.. فإذا تخطى الطفل سن الخامسة دون أن توجد بينه وبين الكتب والأوراق علاقة اعتقد أنه سيصعب خلقها لاحقا... وأذكر أني مررت بتجربة صعبة في المرحلة الثانوية، وذلك بأن انقطعت عن زملائي وزميلاتي بعد تواصل يومي في مسرح طلابي .. فدخلت حالة من الاكتئاب لدرجة مخيفة جدا، "وسأستعين هنا بكلام أحلام مستغانمي" ولكن بمجرد أن حولتهم إلى كائنات حبرية أو شعرية بدأت أتنفس، وبدأت تلك الغصة الكاتمة على صدري بالانزياح.. ربما لأني انشغلت بنصي عن التفكير بهم .. كان نصا طفوليا ساذجا ولكن إلى الآن هذا النص قريب مني، وإلى الآن استغرب هذه الكيمياء الغريبة التي تعالجنا من الداخل... أتصور أنه دون الشعر ربما لأصبت بكآبة مزمنة. لذلك جزء كبير من وظيفة الشعر التنفس، وإزالة الشحنة السالبة من النفس والجسد والروح..

* هل أنت خائف على أبنائك من الانترنت والتلفزيون والخيارات الكثيرة من أن لا يقرأوا مستقبلا؟

أنا أرى أن الانترنت والتلفاز يقومان بدور تعليمي .. هنالك قنوات متخصصة تجعل الطفل ينطق الحروف بشكل جيد، فهي لا تعرقل أبدا، ولكن على رب الأسرة أن يوفق بينها وبين القراءة أيضا...
* بما أنك تقول أن كتابة السرد كتابة أسهل من كتابة الشعر وبعد فوز قصتك في أحد الملتقيات الأدبية...لماذا قلت: "فقدت فحولتي القصصية" في إحدى حواراتك ؟

سأنتقد نفسي على الجملة الأخيرة.. كان ذاك كلام انفعالي في تلك المقابلة.. يجب أن أقسو على نفسي لأني أستطيع أن استعيد ما فقدت، والحق يقال أني وبعد أن استمعت إلى قصص الملتقى الأدبي الأخير في البريمي أصبت بالغيرة، وأردت أن اكتب، وأعود إلى السرد، وأحلم بكتابة الرواية أيضا. ما قصدته أن الكاتب يعتقد أن الشعر منطقة مخيفة، ويجب أن يحتاط لها، بينما السرد منطقة أسهل، ولم أرد أن أقلل من قيمة السرد لذلك الساردون الجيدون عددهم قليل جدا كما قلت. كانت تلك القصة الفائزة هي بيضة الديك كالشعراء القدماء الذين كانت لديهم قصيدة واحدة ويسمونها اليتمية..

* لماذا معظم الشعراء صامتين عن عملية النشر؟ هل يحدث ذلك بسبب وجود أسماء مكرسة في الشعر لا تفسح مجالا لغيرها؟

أعرف شعراء أصدقاء بدأوا بكتابة الشعر وتوقفوا عن الكتابة. نحن نقيس الشاعر بما ينتج فأنا مثلا شبه صامت لدي مجموعتين فقط بينما من كانوا في عمر تجربتنا من كتاب القصة أنتجوا أكثر... النتاج في الشعر أقل بالقياس مع النتاج في القصة.. عبد الله الغافري ... علي الرواحي ...عبدالله المعمري ... مجموعة من الشعراء يكتبوا ثم يصمتوا لفترة طويلة ... وربما لكل واحد منهم مبرراته... ربما فقدوا الوصفة الشعرية، وأنا أتكلم هنا عن جيل الشباب .. فالشاعر سيف الرحبي مثلا تجاوز أن يكون ندا للشعراء الجدد. أنا لا أصدق بوجود صنمية لأسماء دون غيرها لأننا من يخلق الأصنام، ومن أراد الشهرة يمكن له أن يحصل عليها وأن يلمع نفسه جيدا..لكن علينا أن نعرف أن الشاعر كائن غامض قد لا يعرف ما يريد، وقد يتصرف أحيانا بحمق شديد إذ يتصالح مع نفسه، ويتعادى مع العالم أو يتعادى مع نفسه ويتصالح مع العالم.. في كثير من الأحيان هو لا يعرف ماذا يريد... جوّاب آفاق ومغامر وطائش..

* النشر في الدوريات والملاحق والمجلات المحلية ألا ترى أن نشاط الشاعر فيها خافت أيضا؟

نعم هذا أمر ألاحظه حقيقة ...إلا أنه ليس من السهل أن نكتب نصا شعريا ... أنا كشاعر قد أبقى لعام لا اكتب إلا ما بين نص إلى أربعة نصوص وفقط ..ليس سهلا أن نكتب شعرا لأن الشعر تجربة.. حياة.. مغامرة ... لا يمكن أن أجلس إلى مكتبي واكتب هكذا ... الشاعر الصادق هو الذي ينطلق من ذاته ومما يعيشه ومما يحرك لديه الكتابة.. وعلى مستوى النص.. أنا أحاول أن يكون نصي مختلفا، ولا اكتب نصي مرة واحدة، وإنما أحب أن اشتغل عليه وقد يخرج نصا بسيطا.. ولكن عندي قلق من أن أكرر نفسي، ولدى هاجس بضرورة أن أنفرد بالتجربة.. اعتقد أنه ليس من مهام الشاعر أن يكتب قدرا كبيرا من الشعر... ولو أردت أن أكون مشهورا فأنا أعرف جيدا نوعية النصوص التي ستجعلني مشهورا..بالطبع عن طريق النصوص الجماهيرية التي يمكن أن يُصوت لها بكثرة.

* هل ستطاع الشاعر العماني أن يعبر جغرافيته، وأن يملك صوته خارج الحدود ؟

طبعا... والآن وبحكم وسائل الاتصال العالمية على العماني أن يحافظ على خصوصيته فقط لأنه يتواصل مع العالم بأجمعه. فهو لا يسعى للتواصل مع الآخرين لأن الآخرين باتوا يصلون إليه، ويتعرفون عليه وعلى نتاجه من دون جهد.. فقط بضغطة زر.. ويوما بعد آخر.. من الواضح أن الشاعر العماني يُعرف بواسطته أو بواسطات أخرى. أنا لا يهمني أن أدخل أو أن أخرج من أي جغرافيا، والدول التي سافرت إليها معدودة . فليس عندي حمى السفر...لا تسكنني حمى الغجر إلا إذا دعت الظروف لعمل أو دراسة، وكل المثقفين من خارج السلطنة أعرفهم عن طريق المصادفة.. فأنا لا أخطط بأن أعرض نفسي عليهم كشاعر. أخبرني صديقي في تونس أنه استمع إلى برنامج عن الأم وأن فتاة شاركت وقرأت مقطعا من قصيدتي دون أن تنسبه لي: عندما أرجع بالشمس /إلى أمي /سألقيها عليها /علّها ترتد من بعد /شبابا /وأنا ارتدّ طفلا /في يديها /تساءلت في نفسي كيف وصلت إليها القصيدة ؟ وكان الجواب سهلا: لتوفرها في الانترنت. القنوات قربت المسألة أنا لا يهمني أعرف، ولكن يهمني أن يُعرف شعري، وأن يبقى، وأن يؤثر في نفس المكتئب.. لأن الفرح فرح ولا يحتاج لمن يسليه..

* أخيرا.. لمن يقرأ خميس قلم بعد محمود درويش؟

محمود درويش شاعر ضخم ، وهو من شعرائي المفضلين، وثمة آخرين كثر أفضلهم .. محمد السناني شاعر عماني وهو خلاصة الشعراء الكبار.. عوض اللويهي أيضا .. ربما يكونا مغمورين، ولكنهما يصعدان إلى الجبال ويقطفان الأزهار البرية، ويستحلبان رحيقها، وأنا أثق بهما، وثمة شعراء شباب في تونس أما الشعراء الكبار فنحن نعهرفهم ونقرأ لهم من مثل سيف الرحبي وسماء عيسى. لا يهمنى كثيرا التفكير بمستقبل الشعر .. فإذا امتلك الشعر أسباب بقائه سيبقى، وإذا فقد أسباب بقائه فسينقرض كما انقرضت أشكال كثيرة منه..