27 مايو 2010

قراءة في مجموعة ‘الممثل’ لأزهار أحمد

الأجناس السردية حافلة بالتنوع في مصطلحاتها ورؤيتها وأنواعها وعناصرها، فالرواية والقصة والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والحالة وغيرها تتماس في بعض معطياتها وعناصرها وتنفصل في بعض خصائصها وفق ظروف وملابسات وعي الكاتب وتوظيفه للتقنيات الفنية المتاحة لديه وحتى على صعيد ما يسمى محددات القصة القصيرة، فقد اختلف نقّاد الأدب في طبيعتها قياساً بالنماذج الريادية لـ (إدجار ألن بو) و(جوجول) و(تشيخوف) وغيرهم، وتحولاتها فيما بعد حتى ليصف بعض النقاد بعض نصوص (بورخيس) بأنها تمثل حالة وليست قصصاً قصيرة .

أقول إن هذا الاختلاف مرهون بظروف تتعلق بالمادة الإبداعية ذاتها، فلا يمكن وضع قوانين صارمة يتموضع القاص على أساسها في زاوية أو خانة محددة .

ومجموعة (الممثل) للكاتبة أزهار أحمد الصادرة عن دار الانتشار العربي 2007م لا تتعامل في مجمل نصوصها مع عناصر القصة تعاملاً صارماً، بل تختار من تلك العناصر ما يخدم بنية السرد ويكشف فكرته، والفكرة في كل نص من نصوص المجموعة هي بؤرته وليس الحدث ولا أقصد بالفكرة هنا مغزى النص أو مراميه ومضامينه الدلالية بل النواة الأولى لكتابة نص مختلف على الصعيد الشكلي الخارجي للنص، كتقسيم النص إلى مشاهد مسرحية كما في نص (ستة صناديق من العنب)، (سنوات البياض) وعلى المستوى الداخلي المضموني بما يحمله الموضوع المطروح من غرائبية أو مفارقة كما في نص (الممثل)، ( إما أنا أو أنتِ).

وتأكيداً على سعي الكاتبة لإنشاء نصوص قائمة على الفكرة الجديدة أستعير هنا عبارة إحدى شخصيتها وهي (فرح) في نص (طلبنا طعاماً صينياً)، إذ تقول في حوار لها مع صديقتها (منى) ص 13:

ـ من كتب هذا الهراء يا فرح؟؟

هراء؟؟ ألا يعجبك؟؟ أنتِ الوحيدة التي ظننت أنه سيفتنك.

ـ ما الذي يمكن أن يفتنني فيه يا عزيزتي؟؟

الأسلوب (الفكرة)، البنية، ( النص جديد تماماً)

هذا هو حال الكاتبة تسعى من خلال الفكرة إلى كتابة نصٍ جديد تماماً.

للوهلة الأولى يظن الناظر إلى نصوص المجموعة أنها متجاورة، كل نص مستقل بفكرته وبنائه، لكن سرعان ما تتضح خطوط التماس بين النصوص بالقراءة الفاحصة وبمقدار ما تحدد هذه الخطوط ملامح النصوص وعلاقاتها وتسرّب ضمنها انفعالات الكاتبة النفسية وأفكارها. قد تتمركز هذه البؤرة/ الفكرة في أحد عناصر القصة كالحوار أو العقدة أو الشخصية مذوّبةً بقية العناصر بمعنى أن عناصر القصة تضمر وتنصهر لحساب فكرة النص فيغدو النص (نص الفكرة).

يمثل الحوار في قصة (ساشا والحصان) نموذجاً للفكرة الشكلية، فالحوار هو بؤرة النص والمسيطر على بنية السرد من البداية إلى النهاية بمعنى أن (النص برمته قائم على الحوار والعناصر الأخرى تتضاءل أمام سطوته)، ملامح الشخصيتين المتحاورتين مثلاً لا تكاد تبين ولا تتمايز فهما ذاتان تقعان في إشكال لغوي حول جملة خبرية إخبارية تحتمل الصدق أو الكذب وهي (ساشا وقعت عن الحصان)، ويستدعي هذا التشاكل اللغوي تحري الحادثة (حادثة وقوع ساشا عن الحصان) وتقصي علاقة (ساشا) بالأحصنة يتم ذلك باستخدام جمل استفهامية مكثفة عن طريق أحد أطراف الحوار الذي يبدي قلقه لأمر ما. ورغم أن وقوع ساشا عن الحصان يمثل حدثا بسيطاً لكن هذا الحدث لا ينمو بل يُنمَّي أو يساهم في نمو الحوار وتداعياته. كما أن الحوار لا يكشف أبعاد الشخصية المحورية (ساشا) التي يبدو من اسمها فقط أنها غير عربية وكل ما نعرفه أنها صديقة للمتحاورين. والتشاكل اللغوي الذي سوَغه الحوار يتأكد في نهاية النص ص 27:

ـ لكن قل لي: هل وقعت عن أم من؟

لماذا؟

ـ لكي أكتبها بشكل صحيح في قصتي عن ساشا والحصان.

الواضح أن القلق والتوتر المصاحب لأسئلة الحوار يتبخر في النهاية، فالمحاور السائل يتحرى الدقة اللغوية لكي ينجز قصته عن ساشا والحصان، لاغياً قلقه على ساشا وغير مكترث بمصيرها. هذه الجرأة في كتابة نص سردي قائم على الحوار فقط يؤكد سعي الكاتبة وتفتيشها عما هو جديد عن طريق التجريب الشكلي.

والكاتبة مسكونة كذلك بفكرة الكتابة أو (الكتابة عن الكتابة) ويظهر ذلك بشكل عرضي في النص السابق في الجملة الأخيرة تحديداً (لكي أكتبها بشكل صحيح في قصتي عن ساشا والحصان)، كما تظهر ذات الفكرة في الجملة الأخيرة أيضاً من نص (قطعة خبز ومربى) حين تقول ص 55:

(وما بيدي حيله سوى أن أقضي الوقت بين جر حقائبي ومراقبة الناس والقراءة والكتابة)

هذه إشارات عابرة إلى حضور الكتابة، بينما تكرس الكاتبة النص الأول والثاني في المجموعة للتعبير عن هذه الفكرة: (الكتابة عن الكتابة)

النص الأول: (الكاتب الذي لا يحسن صياغة كذبة)

النص مركب يتشكل من ثلاثة نصوص فرعية غير مكتملة وهي:

1ـ أنا وصديقي في شوارع حلب الشهباء

2ـ أنا وصديقي في القاهرة الجميلة

3ـ أنا وصديقي في لشبونه

تتضام هذه النصوص الفرعية في داخل النص الرئيسي المشتمل على صوت السارد الذاتي وهو يعلق على محاولة كتابته للنصوص الفرعية وإخفاقه.. النص الرئيسي يكشف عن إفلاس (السارد/ شخصية محورية) وفشله في أن يصبح شاعراً: ص 11:

(أعلم أنني فشلت في كتابة ديواني الشعري الأول الذي أسميته “الرجل الذي يحب صنع الحلوى الجديدة” لم أكن أحب صنع شيء، لذا كانت كذباتي واضحة لأنها تفتقد إلى روح الثقة، والكذب متعب بالنسبة لي، لم أستطع كتابة قصيدة عن طبق واحد، بالرغم من إنني بذلت الكثير من الجهد في قراءة كتب الطبخ وغيرها)

بعد هذا الفشل الذريع يتوجه السارد إلى كتابة سلسلة قصصية بعنوان “مع صديقي في بلدان العالم” طارحاً أثناء سرده إشكالية الكتابة عن تجربة متخيلة في أماكن تشكلت مشاهدها الصورية من خلال المسلسلات والكتب فقط، مصحوباً بخوفه أن يكشف أحد ما كذبه في كتابة تجارب لم يعشها. هذه الرغبة العميقة من قبل السارد في الكتابة والإصرار على استمراريتها وتقديم نماذج لا تخلو من الطرافة، كل ذلك يعكس قلقاً سرياً يشغل الكاتبة، يختص بطبيعة الكتابة وحرارة التجربة ويمتد

خميس قلم